فصل: تفسير الآية رقم (73)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يصدون عن سبيل الله‏}‏ يعني الذين يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام ‏{‏ويبغونها عوجاً‏}‏ يعني ويحاولون أن يغيروا دين الله وطريقته التي شرع لعباده ويبدلونها، وقيل معناه أنهم يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله وذلك أنهم طلبوا سبيل الله بالصلاة لغير الله وتعظيم ما لم يعظمه الله فأخطؤوا الطريق وضلوا عن السبيل ‏{‏وهم بالآخرة كافرون‏}‏ يعني وهم بكون الآخرة واقعة جاحدون منكرون لها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وبينهما حجاب‏}‏ يعني بين الجنة والنار وقيل بين أهل الجنة وأهل النار حجاب وهو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب‏}‏ قال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار‏.‏ وقال السدي وبينها حجاب هو السور وهو الأعراف وقوله‏:‏ ‏{‏وعلى الأعراف رجال‏}‏ الأعراف‏:‏ جمع عرف وهو كل مرتفع من الأرض ومنه قيل عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من الجسد سمي بذلك لأنه بسبب ارتفاعه صار أعرف وأبين مما انخفض، وقال السدي‏:‏ إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الأعراف الشيء المشرف وعنه قال الأعراف سور كعرف الديك وعنه أن الأعراف جبل بين الجنة والنار‏.‏ يحبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار واختلف العلماء في صلة الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك فروي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال‏:‏ هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتخلفت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله تعالى فيهم، قال بعضهم‏:‏ إنما جعلوا على الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار فهم لا من أهل الجنة ولا من أهل النار لكن الله تعالى يدخلهم الجنة بفضله ورحمته لأنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار‏.‏ وقال ابن مسعود رضي الله عنه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر بواحدة دخل الجنة من كانت سيئاته أكثر بواحدة دخل النار وإن الميزان يخف ويثقل بمثال حبة من خردل ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الأعراف فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فهنالك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لم يدخلوها وهم يطمعون‏}‏ فكان الطمع دخولاً قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ إذا عمل العبد حسنة كتب له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب له إلا واحدة ثم قال هلك من غلب آحاده عشراته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الأعراف سور بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئآتهم فهم بذلك المكان حتى إذا أراد الله تعالى أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قصب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال تمنوا ما شئتم فيتمونون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفاً فيدخلون الجنة ذكره ابن جرير في تفسيره‏.‏

وقال شرحبيل بن سعد‏:‏ أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو من غير إذن آبائهم‏.‏ ورواه الطبري بسنده إلى يحيى بن غيل مولى لبني هاشم عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال «هم قوم قتلوا عصاة لآبائهم فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلو الجنة» زاد في رواية «فهُم آخر من يدخل الجنة» وذكر ابن الجوزي‏:‏ إنهم قوم رضي آباؤهم دون أمهاتهم وأمهاتهم دون آبائهم‏.‏ ورواه عن إبراهيم وذكر عن أبي صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ إنهم أولاد الزنا، وقيل‏:‏ إنهم الذين ماتوا في الفترة وفيه بعد لأن آخر أمر أصحاب الأعراف إلى الجنة وهؤلاء الذين ماتوا في الفترة والله أعلم بحالهم وهو يتولى أمرهم وقيل إنهم أولاد المشركين الذين ماتوا أطفالاً وهذا القول يرجع معناه إلى القول الذي قبله لأنه داخل في حكمه فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله تعالى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء فعلى هذا القول إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة أو ليرى غيرهم شرفهم وفضلهم وقيل إنهم أنبياء حكاه ابن الأنباري وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزاً لهم على سائر أهل القيامة وإظهاراً لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار‏.‏ وقال أبو مجلز‏:‏ أصحاب الأعراف ملائكة يعرفون الفريقين بسيماهم يعني يعرفون أهل الجنة وأهل النار، فقيل لأبي مجلز‏:‏ إن الله تعالى يقول وعلى الأعراف رجال وأنت تقول إنهم ملائكة فقال إن الملائكة ذكور ليسوا بإناث وضعَّف الطبري قول أبي مجلز قال‏:‏ لأن لفظ الرجال في لسان العرب لا يطلق إلا على الذكور من بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق وحاصل هذه الأقوال أن أصحاب الأعراف أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أجلسهم الله في ذلك المكان العالي ليميزوا بين أهل الجنة وبين أهل النار والله أعلم بمراده وأسراره كتابه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يعرفون كلاًّ بسيماهم‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة بسيماهم وذلك ببياض وجوههم ونضرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسيماهم وذلك بسواد وجوههم وزرقة عيونهم والسيما العلامة الدالة على الشيء وأصله من السمة‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرفوا ببياض الوجوه وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه‏.‏

فإن قلنا إن أصحاب الأعراف من استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم دون أهل الجنة في الدرجة كان وقوفهم على الأعراف ليكونوا درجة متوسطة بين الجنة والنار فإذا رأوا أهل الجنة وعرفوهم ببياض وجوههم ونادوهم أن سلام عليكم وهو قوله تعالى ‏{‏ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم‏}‏ يعني‏:‏ نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة أن سلام عليكم يعني سلمتم من الآفات وحصل لكم الأمن والسلامة وإذا رأوا أهل النار يعرفونهم بسواد وجوههم ‏{‏قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين‏}‏ وإن قلنا‏:‏ إن أصحاب الأعراف هم الأشراف والأفاضل من أهل الجنة كان جلوسهم على الأعراف ليطلعوا على أهل الجنة وأهل النار ثم لينقلهم الله عز وجل إلى الدرجات العلية في الجنة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم يدخلوها وهم يطمعون‏}‏ يعني في دخول الجنة‏.‏ قال الحسن‏:‏ ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار‏}‏ يعني وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار يعني وجاههم وحيالهم فنظروا إليهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب ‏{‏قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين‏}‏ يعني الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن أصحاب الأعراف إذا نظروا لأهل النار وعرفوهم قالوا‏:‏ ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين والمعنى أن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وما هم فيه من العذاب تضرعوا إلى الله تعالى وسألوه أن لا يجعلهم منهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب الأعراف رجالاً‏}‏ يعني ونادى أصحاب الأعراف رجالاً كانوا عظماء في الدنيا وهم من أهل النار ‏{‏يعرفونهم بسيماهم‏}‏ يعني سيما أهل النار ‏{‏قالوا‏}‏ يعني أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار ‏{‏ما أغنى عنكم جمعكم‏}‏ يعني ما كنتم تجمعون من الأموال والعدد في الدنيا ‏{‏وما كنتم تستكبرون‏}‏ يعني وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئاً‏.‏ قال الكلبي‏:‏ ينادونهم وهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزئون بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار ‏{‏أهؤلاء‏}‏ لفظ استفهام يعني أهؤلاء الضعفاء ‏{‏الذين أقسمتم‏}‏ بالله ‏{‏لا ينالهم الله برحمة‏}‏ يعني أنكم حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة وقد دخلوا الجنة ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف ‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏ بفضلي ورحمتي ‏{‏لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون‏}‏ وقيل إن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأصحاب النار ما أخبر الله عنهم قال لهم أهل النار إن أولئك دخلوا الجنة وأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون إنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة لأهل النار أهؤلاء يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف‏:‏ ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج فقالوا‏:‏ يا ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيأذن لهم فينظرون إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم وينظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم فينادون أي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول قد احترقت أفضْ عليّ من الماء فيقال لهم‏:‏ أجيبوهم فيقولون إن الله حرمهما على الكافرين‏.‏ ومعنى الآية أن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة إذا استقروا فيها وذلك عند نزول البلاء بأهل النار وما يلقون من شدة العطش والجوع عقوبة لهم من الله على ما سلف منهم في الدنيا من الكفر والمعاصي‏.‏ يقول أهل النار لأهل الجنة يا أهل الجنة أفيضوا علينا من الماء يعني صبوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله يعني أو أطعمونا مما رزقكم الله ووسعوا علينا من طعام الجنة فيجيبهم أهل الجنة بقولهم ‏{‏إن الله حرمهما على الكافرين‏}‏ وهذا الجواب يفيد الحرمان، وقال بعضهم‏:‏ لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل والشرب عذبهم الله في الآخرة بشدة الجوع والعطش فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا في طلب الأكل والشرب فأجيبوا بأن الله حرمهما على الكافرين يعني طعام الجنة وشرابها ثم وصف الكافرين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً‏}‏ يعني أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم ولهوا عنه‏.‏ وأصل اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه‏.‏ ويقال لهوت بكذا ولهيبت عن كذا أي اشتغلت عنه‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هم المستهزؤون وذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعام إليه وهزؤوا به استهزاء بالله عز وجل، وقيل‏:‏ هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحائر والسوائب والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية‏:‏ وقيل‏:‏ معنى دينهم عيدهم اتخذوه لهواً ولعباً لا يذكرون الله فيه ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ يعني وخدعهم عاجل ما هم فيه من خصب العيش ولذته وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسوله وعن الأخذ بنصيبهم من الآخرة حتى أتتهم المنية على ذلك‏.‏ والغرة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال والجاه ونيل الشهوات فإذا حصل ذلك صار محجوباً عن الدين وطلبِ الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال ‏{‏فاليوم‏}‏ يوم القيامة ‏{‏ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا‏}‏ يعني فاليوم نتركهم في العذاب المهين جياعاً عطاشاً كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا‏.‏

وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نسيهم من الخير ولم ينسهم من الشر‏.‏ وقيل معناه نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار كما تركوا العمل وأعرضوا عن الإيمان إعراض الناسي‏.‏ سمى الله تعالى جزاء نسيانهم بالنسيان على المجاز لأن الله تعالى لا ينسى شيئاً فهو كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فيكون المراد من هذا النسيان أن الله تعالى لا يجيب دعاءهم ولا رحم ضعفهم وزلتهم بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل ‏{‏وما كانوا بآياتنا يجحدون‏}‏ يعني ونتركهم في النار كما كانوا بدلائل وحدانيتنا يكذبون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جئناهم بكتاب‏}‏ يعني ولقد جئنا هؤلاء الكفار بالقرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد ‏{‏فصلناه على علم‏}‏ أي بيناه على علم منا بما نفصله ونبينه ‏{‏هدى ورحمة لقوم يؤمنون‏}‏ أي جعلنا القرآن هادياً وذا رحمة لقوم يؤمنون ‏{‏هل ينظرون‏}‏ يعني ينتظر هؤلاء الكفار الذين كذبوا بآياتنا وجحدوها ولم يؤمنوا بها ‏{‏إلا تأويله‏}‏ يعني هل ينظرون ويتوقعون إلا ما وعدوا به على ألسنة الرسل من العذاب وأن مصيرهم إلى النار والتأويل ما يؤول إليه الشيء ‏{‏يوم يأتي تأويله‏}‏ يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء وما تؤول إليه أمورهم ‏{‏يقول الذين نسوه من قبل‏}‏ يعني‏:‏ يقول الذين تركوا العمل بالقرآن ولم يؤمنوا به يوم القيامة عند معاينة العذاب ‏{‏قد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏ أقروا على أنفسهم واعترفوا حين لا ينفعهم ذلك الاعتراف والإقرار‏.‏ والمعنى أن الكفَّار أقرو بأن الذي جاءت به الرسل من الإيمان والتصديق والحشر والنشر والبعث يوم القيامة والثواب والعقاب حق وصدق وإنما أقروا بهذه الأشياء لأنهم شاهدوها معاينة وذلك حين لا ينفعهم ولما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا ‏{‏فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل‏}‏ يعني أنه ليس لنا طريق إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب إلا أن يشفع لنا شفيع عند ربنا فيقبل شفاعته فينا فيخلصنا من هذا العذاب أو نرد إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها فنبدل الكفر بالتوحيد والإيمان والمعاصي بالطاعة والإنابة ‏{‏قد خسروا أنفسهم‏}‏ يعني أن الذي طلبوه لا يحصل لهم فتبين خسرانهم وإهلاكهم أنفسهم لأنهم كانوا في الدنيا أول مرة فلم يعملوا بطاعة الله ولو رُدوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعصيان لسابق علم الله تعالى فيهم ‏{‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ يعني وبطل وذهب عنهم ما كانوا يزعمون ويكذبون في الدنيا من أن الأصنام تشفع لهم فلما أفضوا إلى الآخرة ذهب ذلك عنهم وعملوا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله‏}‏ يعني إن سيدكم ومالككم ومصلح أموركم وموصل الخيرات إليكم والذي يدفع عنكم المكاره وهو الله ‏{‏الذي خلق السموات والأرض‏}‏ أصل الخلق في اللغة التقدير ويستعمل في إيداع الشيء من غير أصل سبق ولا ابتداء تقدم‏.‏ فقوله‏:‏ خلق السموات والأرض يعني أبدعهما وأنشأ خلقهما على غير مثال سبق وقدر أحوالهما ‏{‏في ستة أيام‏}‏ فإن قلت‏:‏ اليوم عبارة عن مقدار من الزمان وذلك المقدار هو من طلوع الشمس إلى غروبها فكيف قال في ستة أيام ولم يكن شمس ولا سماء قلت معناه في مقدار ستة أيام فهو كقوله ‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً‏}‏ يعني على مقادير البكر والعشي في الدنيا لأن الجنة لا ليل فيها ولا نهار‏.‏ واختلف العلماء في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل بخلق الأشياء فيه فقيل في يوم السبت وهو قول محمد بن إسحاق وغيره، ويدل على صحة هذا القول ما روى مسلم في إفراده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال» خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجرة يوم الأثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل «وهذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم ففيه مقال وقد أنكره بعض العلماء لما فيه من المخالفة للآية الكريمة لأن الله تعالى يقول‏:‏ خلق السموات والأرض في ستة أيام‏.‏ وقال في آخر آية أخرى‏:‏ ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام فدل بهذين النصين على أن جميع الخلق تم وعمل في ستة أيام والذي في الحديث أن بعض الخلق وقع في سبعة أيام وذلك مجموع أيام الأسبوع فلهذا السبب أنكره وأنكره من العلماء وقد ذكر الأزهري في كتابه تهذيب اللغة ما يقوي الحديث فقال‏:‏ وقال ابن الأنباري السبت القطع وسمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ الخلق يوم السبت وقطع فيه بعض خلق السموات والأرض وقيل‏:‏ إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد وهو قول عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير الطبري، قال الطبري‏:‏ خلق الله السموات والأرض في ستة أيام وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وروي بسنده عن مجاهد قال‏:‏ بدأ خلق العرش والماء والهواء وخلقت الأرض من الماء وبدأ الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وجمع الخلق في يوم الجمعة وتهودت اليهود في يوم السبت ويوم الستة الأيام كالألف سنة مما تعدون تعدون ويعضد هذا القول ما حكاه صاحب المحكم ابن سيده قال‏:‏ وسمي سابع الأسبوع سبتاً لأن ابتداء الخلق كان من يوم الأحد إلى يوم الجمعة ولم يكن في السبت خلق‏.‏

قال أصحاب الأخبار والسير والتواريخ‏:‏ إن الله تعالى خلق التربة التي هي الأرض بلا دحو ولا بسط في يوم الأحد والاثنين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات في يومين وهما الثلاثاء والأربعاء ثم دحا الأرض وبسطها وطحاها وأخرج ماءها ومرعاها وخلق دوابها ووحشها وجميع ما فيها في يومين وهما الخميس والجمعة وخلق آدم في يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة وقبل خلق الله عز وجل التربة يوم الأحد ثم استوى إلى السماء فخلقها وجميع ما فيها يوم الاثنين والثلاثاء ثم مد الأرض ودحاها يوم الأربعاء والخميس وخلق آدم يوم الجمعة وأسكنه الجنة هو وزوجته حواء ثم أهبطهما إلى الأرض في آخر ساعة من يوم الجمعة‏.‏ وقيل‏:‏ أول ما خلق الله القلم ثم اللوح فكتب فيه ما كان وما سيكون وما خلق وما هو خالق إلى يوم القيامة ثم خلق الظلمة والنور ثم خلق العرش ثم خلق السماء من درة بيضاء ثم خلق التربة ثم خلق السموات وما فيها من نجوم وشمس وقمر ثم مد الأرض وبسطها من التربة التي خلقها أولاً ثم خلق جميع ما فيها من جبال وشجر ودواب وغير ذلك ثم خلق آدم آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة وفيه أهبط إلى الأرض فتكامل جميع الخلق في ستة أيام كل يوم مقداره ألف سنة وهذا قول جمهور العلماء وقيل في ستة أيام من أيام الدنيا‏.‏

فإن قلت إن الله عز وجل قادر على أن يخلق جميع الخلق في لحظة واحدة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر‏}‏ فما الفائدة في خلق السموات والأرض في ستة أيام وما الحكمة في ذلك‏؟‏

قلت‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى، وإن كان قادراً على خلق جميع الأشياء في لحظة واحدة، إلا أنه تعالى جعل لكل شيء حداً محدوداً ووقتاً معلوماً يدخل في الوجود إلا في ذلك الوقت والمقصود من ذلك تعليم عباده التثبت والتأني في الأمور‏.‏ وقال سعيد بن جبير كان الله عز وجل قادراً على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهن في ستة أيام تعليماً لخلقه التثبت والتأني في الأمور كما في الحديث «التأني من الله والعجلة من الشيطان» وقيل إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة فلعله أن يخطر ببال بعضهم أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الأتفاق فإذا أحدث شيئاً بعد شيء على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة‏.‏

وقيل‏:‏ إن الله تعالى أراد أن يوقع في كل يوم أمراً من أمره حتى تستعظمه الملائكة وغيرهم ممن شاهده‏.‏ وقيل إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة والتثبت أبلغ في الحكة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن فيكون‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ العرش في اللغة‏:‏ السرير، وقيل‏:‏ هو ما علا فأظل وسمي مجلس السلطان عرشاَ اعتباراً بعلوه‏.‏ ويكنى عن العز والسلطان والمملكة بالعرش على الاستعارة والمجاز‏.‏ يقال فلان فل عرشه بمعنى ذهب عزه وملكه وسلطانه‏.‏ قال الراغب في كتابه مفردات القرآن‏:‏ وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له تعالى الله عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب‏.‏ وأما استوى بمعنى استقر فقد رواه البيهقي في كتابه الأسماء والصفات برواية كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها، وقال‏:‏ أما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك، وروى بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال‏:‏ كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه‏؟‏ قال‏:‏ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال‏:‏ الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه فأخرج الرجل‏.‏ وفي رواية يحيى بن يحيى قال‏:‏ كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه‏؟‏ فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء ثم قال الاستهواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعاً أفمر به أن يخرج‏.‏ روى البيهقي بسنده عن ابن عيينة قال‏:‏ ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكون عنه‏.‏ قال البيهقي‏:‏ والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وإليه ذهب أحمد بن حنبل والحسن بن الفضل البجلي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي‏.‏ قال البغوي أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز وجل وذكر حديث مالك بن أنس مع الرجل الذي سأله عن الاستواء وقد تقدم‏.‏ وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة اقرؤوها كما جاءت بلا كيف‏.‏

وقال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعد ذكره الدلائل العقلية والسمعية‏:‏ أنه لا يمكن حمل قوله تعالى ثم استوى على العرش على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول القطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى هو الذي قررنا في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏}‏ وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه والمذهب الثاني‏:‏ أنا نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان‏:‏ الأول، ما ذكره القفال فقال العرش في كلامهم هر السرير الذي يجلس عليه الملك ثم جعل ثل العرش كناية عن نقض الملك يقال ثل عرشه انتقض ملكه وإذا استقام له ملكه واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه هذا ما قاله القفال والذي قاله القفال حق وصواب ثم قال الله تعالى دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم تنبيهاً على عظمة الله جل جلاله وكمال قدرته وذلك مشروط بنفي التشبيه والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة‏.‏ قال ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس ‏{‏ثم استوى على العرش يدبر‏}‏ فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله ثم استوى على العرش وأورد على هذا القول أن الله تعالى لم يكن مستوياً على الملك قبل خلق السموات والأرض والله تعالى منزه عن ذلك وأجيب عنه بأن الله تعالى كان قبل خلق السموات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال شبع زيد إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض والقول الثاني‏:‏ أن يكون استوى بمعنى استولى وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين واحتجوا عليه بقوله الشاعر‏:‏

قد استوى بشر على العراقِ *** من غير سيف ودم مهراقِ

وعلى هذا القول إنما خص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ورد هذا القول بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل ملكاً للأشياء كلها ومستولياً عليها، فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات‏.‏ ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلاً سماه استواء كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقاً ونعمة وغيرهما من أفعاله ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله تعالى‏:‏ ثم استوى على العرش‏.‏ وثم للتراخي والتراخي إنما يكون في الأفعال وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة وحكى الاستاذ أبو بكر بن فورك عن بعض أصحابنا أنه قال‏:‏ استوى بمعنى علا من العلو قال ولا يريد بذلك علواً بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكناً فيه ولكن يريد معنى نفي التحيز عنه وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قطر ووصف الله تعالى بذلك طريقة الخبر‏.‏

ولا يتعدى ما ورد به الخبر قال البيهقي رحمه الله تعالى وهو على هذه الطريقة من صفات الذات وكلمة ثم تعلقت بالمستوي عليه لا بالاستواء‏.‏ قال وقد أشار أبو الحسن الأشعري إلى هذه الطريقة حكاية فقال بعض أصحابنا إنه صفة ذات قال وجوابي هو الأول وهو أن الله تعالى مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أن لا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علواً كبيراً وقد قال بعض أصحابنا‏:‏ إن الاستواء صفة الله تعالى تنفي الاعوجاج عنه‏.‏ وروي أن ابن الأعرابي جاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن ما معنى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى‏؟‏ قال‏:‏ إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل‏:‏ إنما معنى قوله استوى أي استولى‏.‏ فقال له ابن الأعرابي‏:‏ ما يدريك أن العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر لا كما تظنه البشر والله أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغشى الليل النهار‏}‏ يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار لدلالة الكلام عليه ‏{‏يطلبه حثيثاً‏}‏ يعني سريعاً، وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهما الآخر ويخلفه فكأنه يطلبه، حكى الإمام فخر الدين الرازي عن القفال أنه قال‏:‏ إن الله تعالى لما أخبر عباده باستوائه على العرش أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه منها لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات‏.‏ قال الإمام‏.‏ واعلم أنه سبحانه وتعالى وصف هذه الحركة بالسرعة الشديدة وذلك لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها بتحرك الفلك الأعظم ثلاث آلاف ميل وهي ألف فرسخ فلهذا قال تعالى يطلبه حثيثاً لسرعة حركته ‏{‏والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‏}‏ معنى التسخير التذليل وقال الزجاج وخلق هذه الأشياء جارية في مجاريها بأمره وقال المفسرون‏:‏ يعني بتسخيرهن تذليلهن لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع إذ ليس هي قادرات بأنفسهن وإنما هن يتصرفن في متصرفاتهن على إرادة المدبر لهن الحكيم في تدبيرهن وتصريفهن على ما أراد منهن والمراد بالأمر في قوله بأمره نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين عظمة قدرته ومنهم من حمل الأمر على الأمر الذي هو الكلام وقال إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا وخراب هذا العالم‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن الشمس والقمر من النجوم فلم أفردهما بالذكر ثم عطف عليهما ذكر النجوم‏؟‏

قلت‏:‏ إنما أفردهما بالذكر لبيان شرفهما على سائر الكواكب لما فيهما من الإشراق والنور وسيرهما في المنازل لتعرف الأوقات فهو كقوله‏:‏ من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فعطف جبريل وميكال على ذكر الملائكة وإن كانا من الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما على غيرهما من الملائكة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏ يعني‏:‏ له الخلق لأنه خلقهم وله أن يأمر فيهم بما أراد وله أن يحكم فيهم بما شاء وعلى هذا المعنى الأمر هنا الذي هو نقيض النهي، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق فقال‏:‏ إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أن جميع ما في العالم لله عز وجل والخلق له لأنه خلقهم وجميع الأمور تجري بقضائه وقدره فهو مجريها ومنشئها فلا يبقى بعد هذا لأحد شيء، وقيل‏:‏ المراد بالأمر هنا الإرادة لأن الغرض من الآية تعظيم القدرة وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب وله الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأجد من خلقه عليه ‏{‏تبارك الله‏}‏ يعني تمجد وتعظم وارتفع، وقال الزجاج‏:‏ تبارك تفاعل من البركة ومعنى البركة الكثرة من كل خير وقيل معناه تعالى وتعظم الله ‏{‏رب العالمين‏}‏ يعني أنه هو الذي يستحق التعظيم وذلك أن الله تعالىلما افتتح هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ وذكر أشياء من عظيم خلقه وأن له الخلق والأمر والنهي والقدرة عليهم ختم الآية بالثناء عليه لأنه هو المستحق للمدح المطلق والثناء والتعظيم‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ معناه جاء بكل بركة‏.‏ وقيل‏:‏ تبارك معناه تقدس والتقديس الطهارة‏.‏ وقيل معناه باسمه يتبرك في كل شيء وقال المحققون‏:‏ معنى هذه الصفة ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت ويقال تبارك الله ولا يقال متبارك ولا مبارك لأنه لم يرد به التوقيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم‏}‏ قيل معناه اعبدوا ربكم لأن معنى الدعاء طلب الخير من الله تعالى وهذه الصفة العبادة ولأنه تعالى عطف عليه قوله وادعوه خوفاً وطمعاً والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به حقيقة الدعاء هو الصحيح لأن الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته، وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تضرعاً‏}‏ يعني ادعوا ربكم تذللاً واستكانة، وهو إظهار الذل في النفس والخشوع‏.‏ يقال‏:‏ ضرع فلان لفلان إذا أذل له وخشع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تضرعاً يعني تملقاً وحقيقته أن ندعوه خاضعين خاشعين متعبدين بالدعاء له تعالى ‏{‏وخفية‏}‏ يعني سراً في أنفسكم وهو ضد العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفياً لهذه الآية قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول ادعوا ربكم تضرعاً وخفية وأن الله تعالى ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ نادى ربه نداء خفياً‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» قال أبو موسى رضي الله عنه وأنا خلقه أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في نفسي فقال‏:‏ «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة» قلت بلى يا رسول الله قال‏:‏ «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» قوله صلى الله عليه وسلم «أربعوا على أنفسكم» يعني ارفقوا بها وأقصروا عن الصياح في الدعاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المعتدين‏}‏ يعني في الدعاء، وقال أبو مجلز‏:‏ هم الذين يسألون منازل الأنبياء‏.‏ عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها قال أي بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»

أخرجه أبو داود‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ الاعتداء رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ الاعتداء مجاوزة الحد في كل شيء فكل من خالف أمر الله ونهيه فقد اعتدى ودخل تحت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المعتدين‏}‏ وفرع بعض أرباب الطريقة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً وخفية‏}‏ هل الأفضل إظهار العبادات أم لا فذهب بعضهم إلى أن إخفاء الطاعات والعبادات أفضل من إظهارها لهذه الآية ولكونها أبعد عن الرياء وذهب بعضهم إلى إن إظهارها أفضل ليقتدي به الغير فيعمل مثل عمله وتوسط الشيخ محمد بن عبد الحكيم الترمذي فقال‏:‏ إن كان خائفاً على نفسه من الرياء، فالأولى إخفاء العبادات صوناً لعمله عن البطلان وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى التمكين بحيث صار مبايناً شائبة الرياء كأن الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به؛ وذهب بعضهم إلى أن إظهار العبادات المفروضات أفضل من إخفائها فالصلاة المكتوبة في المسجد أفضل من صلاته في بيته وصلاة النفل في البيت أفضل من صلاته في المسجد وكذا إظهار الزكاة أفضل من إخفائها وإخفاء صدقة التطوع أفضل من أظهارها ويقاس على هذا سائر العبادات قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ يعني ولا تفسدوا أيها الناس في الأرض بالمعاصي والكفر والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل وبيان الشرائع والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بسبب معاصيكم فعلى هذا يكون معنى قوله بعد إصلاحها يعني بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب‏.‏ وقيل معنى الآية‏:‏ ولا تفسدوا في الأرض شيئاً بعد أن أصلحه الله تعالى فيدخل فيه المنع من إتلاف النفس بالقتل أو إفسادها بقطع بعض الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة وأخذه من الغير بوجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر واعتقاد البدع والأهواء المضلة وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى وإفساد العقول بسبب شرب المسكر وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة فمنع الله من إدخال الفساد في ماهيتها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادعوه خوفاً وطمعاً‏}‏ أصل الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وقيل هو توقع مكروه يحصل فيما بعد والطمع توقع محبوب يحصل له والمعنى وادعوه خوفاً منه ومن عقابه وطمعاً فيما عنده من جزيل ثوابه‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ العدل معناه خوف والطمع الفضل‏.‏ وقيل معناه ادعوه خوفاً من الرياء في الذكر والدعاء طمعاً في الإجابة‏.‏

فإن قلت قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعاً وخفية وقال هنا وادعوه وهذا هو عطف الشيء على نفسه فما فائدة ذلك‏؟‏ قلت‏:‏ الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى ادعوا ربكم أي ليكن الدعاء مقروناً بالتضرع والإخبات وقوله وادعوه خوفاً وطمعاً أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء وقيل معناه كونوا جامعين في أنفسكم من بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء وإن اجتهدتم فيهما ‏{‏إن رحمت الله‏}‏ أصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان وتارة في الإحسان المجرد عن القرة وإذا وصف بها الباري جل وعز فليس يراب بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والأنعام على عباده وإيصال الخير إليهم‏.‏

وقيل‏:‏ هي إرادة إيصال الخير والنعمة إلى عباده فعلى القول الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى القول الثاني تكون من صفات الذات ‏{‏قريب من المحسنين‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ‏.‏ وقيل إن تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة وكون الرحمة قريبة من المحسنين لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح‏}‏ هذا عطف على ما قبله‏.‏ والمعنى أن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح ‏{‏بشراً‏}‏ قرئ نشراً بالنون أراد جمع نشور وهي الريح الطيبة الهبوب التي تهب من كل ناحية، وقيل‏:‏ هو جمع ناشر يقال أنشر الله الريح بمعنى أحياها‏.‏ وقال الفراء‏:‏ النشر الريح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ النشر المنتشرة الواسعة الهبوب‏.‏ وقيل‏:‏ النشر خلاف الطيّ فيحتمل أنها كانت بانقطاعها كالمطوية فانتشرت بمعنى أرسلت‏.‏ وقرئ بشراً بالباء جمع بشيرة وهي التي تبشر بالمطر والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة والرياح أربعة الصبا وهي الشرقية والدبور وهي الغربية والشمال وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي والجنوب وهي القبلية‏.‏ وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمان‏:‏ أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ‏{‏بين يدي رحمته‏}‏ يعني أمام المطر الذي هو رحمته وإنما سماه رحمة لأنه سبب لحياة الأرض الميتة‏.‏ قال أبو بكر بن الأنباري رحمه الله تعالى‏:‏ اليدان تستعملهما العرب في المجاز على معنى التقدمة تقول هذه تكون في الفتن بين يدي الساعة يريدون قبل أن تقوم الساعة تشبيهاً وتمثيلاً بما إذا كانت يد الإنسان تتقدمانه كذلك الرياح تتقدم المطر وتؤذن به‏.‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئاً وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت في مؤخر الناس فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله من خيرها واستعيذوا بالله من شرها» رواه الشافعي رضي الله عنه بطوله وأخرجه أبو داود في المسند عنه‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً‏}‏ يقال أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحاباً لانسحابه في الهواء‏.‏

والمعنى‏:‏ حتى إذا حملت هذه الرياح سحاباً ثقالاً بما فيه من الماء قال السدي‏:‏ إن الله تبارك وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلقيان فتخرجه من ثم، ثم تنشره فتبسطه في السماء كيف يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك‏.‏

وقيل إن الله تعالى دبر بحكمته أن الرياح تتحرك تحريكاً شديداً فتثير السحاب ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد ويحمل الماء ثم تسوقه إلى حيث يشاء الله عز وجل وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سقناه لبلد ميت‏}‏ يعني إلى بلد فتكون اللام بمعنى إلى‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لأجل حياة بلد ميت وإنما قال سقنا، لأن لفظ السحاب مذكر وإن كان جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزاً نظراً إلى اللفظ، قال الأزهري رحمه الله تعالى‏:‏ قال الليث البلد كل موضع من الأرض عامراً أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد‏.‏ زاد غيره والمفازة تسمى بلدة، لكونها مسكن الوحش والجن‏.‏ قال الأعشى‏:‏

وبلدة مثل ظهر الترس موحشة *** للجن بالليل في حافاتها زجل

ومعنى الآية‏:‏ إنا سقنا السحاب إلى بلد ميت محتاج لإنزال الماء لم ينزل فيه غيث ولم تنبت فيه خضرة ‏{‏فأنزلنا به الماء‏}‏ اختلفوا في الضمير في قوله تعالى به إلى ماذا يعود‏؟‏ فقال الزجاج رحمه الله وابن الأنباري جائز أن يكون المعنى فأنزلنا بالبلد الميت الماء وجائز أن يكون المعنى وأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة لنزول الماء ‏{‏فأخرجنا به‏}‏ يعني بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سبباً لإخراج الثمرات، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى فأخرجنا بذلك الماء ‏{‏من كل الثمرات‏}‏ يعني وأخرجنا بذلك البلد بعد موته وجد به من أصناف الثمار والزورع ‏{‏كذلك نخرج الموتى‏}‏ يعني كما أحيينا البلد الميت كذلك نخرج الموتى أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودروس آثارهم واختلفوا في وجه التشبيه، فقيل‏:‏ إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال امطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضاً‏.‏ قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر الله تعالى عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء‏.‏ وفي رواية‏:‏ أربعين يوماً فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون‏:‏ يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي‏:‏ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏:‏ قال مجاهد‏:‏ إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تنشق الأرض ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض به وقيل إنما وقع التشبيه بأصل الأحياء والمعنى أنه تعالى كما أحياء هذا البلد الميت بعد خرابه وموته فأنبت فيه الزرع والشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيى الموتى ويخرجهم من قبورهم أحياء بعد أن كانوا أمواتاً ورمماً بالية لأن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس قادر على أن يحييهم ويخرجهم من قبورهم إلى حشرهم ونشرهم ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ الخطاب لمنكري البعث، يقول‏:‏ إنكم شاهدتم الأشجار وفي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأزهار والأوراق والثمار ثم إن الله تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها‏.‏

والمعنى‏:‏ إنما وصفت ما وصفت من التشبيه والتمثيل لكي تعتبروا وتتذكروا وتعلموا أن من فعل ذلك كان هو الذي يعيد ويحيي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبلد الطيب‏}‏ يعني والأرض الطيبة التربة السهلة السمحة ‏{‏يخرج نباته بإذن ربه‏}‏ يعني إذا أصابه المطر أخرج نباته بإذن الله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذي خبث لا يخرج‏}‏ يعني والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة لا يخرج يعني لا يخرج نباته ‏{‏إلا نكداً‏}‏ يعني عسراً بمشقة وكلفة قال الشاعر في المعنى يذم إنساناً‏:‏

لا تنجز الوعد إن وعدت وإن *** أعطيت أعطيت تافهاً نكدا

يعني بالتافه القليل بالنكد العسير ومعناه‏:‏ إنك إن أعطيت أعطيت القليل بعسر ومشقة‏.‏ قال المفسرون‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الحرة الطيبة وشبه نزول القرآن على قلب المؤمن بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والثمار وكذلك المؤمن إذ سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهرت منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدقه ولا يزيده إلا عتو وكفراً وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول هو طيب وعمله طيب كما أن البلد الطيب ثمره طيب ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي خرجت منها البركة فالكافر خبيث وعمله خبيث‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم خبيث وطيب ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبته كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى لله تعالى الذي أرسلت به» أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون‏}‏ يعني كما ضربنا هذا المثل كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية وحيث جنّبهم سبيل الضلالة وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا لسماع القرآن

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 62‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ اعلم أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته وغرائب خلقه وصنعته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما جرى لهم مع أممهم وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن إعراض قومه فقط في قبول الحق بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت إلى الخسار والهلاك في الدنيا وفي الآخرة إلى العذاب العظيم فمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من الأمم المكذبة وفي ذكر هذه القصص دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحداً من علماء زمانه فلما أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد علم بذلك أنه إنما أتى به من عند الله عز وجل وإنه أوحى إليه ذلك فكان دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ لقد أرسلنا نوحاً جواب قسم محذوف تقديره والله لقد أرسلنا نوحاً وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ويعني أرسلنا بعثنا وهو أول نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نوح عليه الصلاة والسلام نجاراً‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الإرسال أن الله تعالى حمله رسالة ليؤديها إلى قومه فعلى هذا التقدير فالرسالة تكون متضمنة للبعث أيضاً ويكون البعث كالتابع لا أنه أصل، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ بعثه الله وهو ابن أربعين سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة وقيل هو ابن مائة سنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ سمي نوحاً لكثرة نوحه على نفسه واختلفوا في سبب نوحه فقيل‏:‏ لدعوته على قومه بالهلاك وقيل‏:‏ لمراجعته ربه في شأن ابنه كنان وقيل‏:‏ لأنه مر بكلب مجذوم فقال له‏:‏ اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب‏؟‏ ‏{‏فقال‏}‏ يعني نوحاً لقومه ‏{‏يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏ يعني اعبدوا الله تعالى فإنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره فإنه ليس لكم إله معبود سواه فإنه هو الذي يستوجب أن يعبد ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ يعني إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة الله تعالى واتباع أمره وطاعته واليوم الذي خافه عليهم وهو إما يوم الطوفان وإهلاكهم فيه أو يوم القيامة وإنما قال أخاف على الشك وإن كان على يقين من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة ‏{‏قال الملأ‏}‏ وهم الجماعة الأشراف ‏{‏من قومه إنا لنراك‏}‏ يعني يا نوح ‏{‏في ضلال مبين‏}‏ يعني في خطأ وزوال عن الحق بين ‏{‏قال‏}‏ يعني نوحاً ‏{‏يا قوم ليس بي ضلالة‏}‏ يعني ما بي ما تظنون من الضلال ‏{‏ولكني رسول من رب العالمين‏}‏ يعني‏:‏ هو أرسلني إليكم لأنذركم وأخوفكم إن لم تؤمنوا به وهو قوله ‏{‏أبلغكم رسالات ربي‏}‏ يعني بتحذيري إياكم عقوبة على كفركم إن لم تؤمنوا به ‏{‏وأنصح لكم‏}‏ يقال نصحته ونصحت له كما يقال شكرته وشكرت له والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير وقيل حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أنه قال أبلغكم جميع تكاليف الله وشرائعه وأرشدكم إلى الوجه الأصلح والأصوب لكم وأدعوكم إلى ما دعاني إليه وأحب لكم ما أحب لنفسي قال بعضهم والفرق بين إبلاغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم‏.‏

وأما النصيحة فهو أن يرغّبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ يعني أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان والغرق في الدنيا ويعذبكم في الآخرة عذاباً عظيماً وقيل أعلم أن مغفرة الله تعالى لمن تاب وعقوبته لمن أصر على الكفر وقيل‏:‏ لعل الله أطلعه على سر من أسراره فقال وأعلم من الله ما لا تعلمون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 67‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏أوعجبتم‏}‏ الألف ألف استفهام والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف وهذا الاستفهام استفهام إنكار معناه أكذبتم وعجبتم ‏{‏أن جاءكم ذكر من ربكم‏}‏ يعني وحياً من ربكم ‏{‏على رجل منكم‏}‏ تعرفونه وتعرفون نسبه وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب، وقيل‏:‏ المراد بالذكر الكتاب الذي أنزل الله تعالى على نوح عليه الصلاة والسلام سماه ذكراً كما سمي القرآن ذكراً‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالذكر المعجزة التي جاء بها نوح عليه السلام فعلى هذا تكون على بمعنى مع أي مع رجل منكم‏.‏ قال الفراء على هنا بمعنى مع ‏{‏لينذركم‏}‏ يعني جاءكم لأجل أن ينذركم ‏{‏ولتتقوا‏}‏ أي ولأجل أن تتقوا ‏{‏ولعلكم ترحمون‏}‏ لأن المقصود من إرسال الرسل الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود بالتقوى الفوز بالرحمة في الدار الآخرة ‏{‏فكذبوه‏}‏ يعني فكذبوا نوحاً ‏{‏فأنجيناه‏}‏ يعني من الطوفان والغرق ‏{‏والذين معه‏}‏ يعني من آمن من قومه معه ‏{‏في الفلك‏}‏ يعني في السفينة ‏{‏وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى، قال الزجاج‏:‏ عموا عن الحق والإيمان‏.‏ يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير‏:‏

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عم

قال مقاتل‏:‏ عموا عن نزول العذاب بهم وهو الفرق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هوداً‏}‏ أي وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى أخاهم هوداً يعني أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح واتفقوا على أن هوداً عليه الصلاة والسلام لم يكن أخاهم في الدين ثم اختلفوا في سبب الأخوّة من أين حصلت فقيل إنه كان واحداً من القبيلة فيتوجه قوله أخاهم لأنه واحد منهم وقيل إنه لم يكن من القبيلة ثم ذكروا في تفسير هذه الإخوة وجهين‏:‏

الأول‏:‏ قال الزجاج‏:‏ إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة‏.‏ والمعنى إنّا أرسلنا إلى عاد واحداً من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم نبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك أو الجن‏.‏

والثاني‏:‏ إنه أخاهم يعني صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت ‏{‏قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏ أي اعبدوا الله وحده ولا تجعلوا معه إلهاً آخر فإنه ليس لكم إله غيره والفرق بين قوله في قصة نوح وهنا قال إن نوحاً كان مواظباً على دعوة قومه غير متوان فيه لأن الفاء تدل على التعقيب‏.‏

وأما هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عند بقوله ‏{‏قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏ ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ يعني أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره ولما كانت هذه القصة منسوقة على قصة قوم نوح وقد علموا ما حل بهم من الفرق حسن قوله هنا‏.‏ أفلا تتقون يعني أفلا تخافون ما نزل بهم العذاب ولم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ‏{‏قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة‏}‏ يعني إنا لنراك يا هود في حمق وجهالة وضلالة عن الحق‏.‏ والصواب‏:‏ أخبر الله تعالى عن قومه نوح أنهم قالوا له إنا لنراك في ضلال مبين وأخبر عن قوم هود أنهم قالوا إنا لنراك في سفاهة والفرق بينهما أن نوحاً لما خوف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة قال له قومه عند ذلك إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء وأما هود عليه السلام فإنه لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا إنا لنراك في سفاهة ‏{‏وإنا لنظنك من الكاذبين‏}‏ يعني في ادعائك أنك رسول من عند الله ‏{‏قال‏}‏ يعني قال هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه ‏{‏يا قوم ليس بي سفاهة‏}‏ يعني ليس الأمر كما تدعون أن بي سفاهة ‏{‏ولكني رسول من رب العالمين‏}‏ يعني إليكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 72‏]‏

‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏أبلغكم رسالات ربي‏}‏ يعني أودي إليكم ما أرسلني به من أوامره ونواهيه وشرائعه وتكاليفه ‏{‏وأنا لكم ناصح‏}‏ يعني فيما آمركم به من عبادة الله عز وجل وترك عبادة ما سواه ‏{‏أمين‏}‏ يعني على تبليغ الرسالة وأداء النصح والأمين الثقة على ما ائتمن عليه‏.‏ حكى الله عن نوح عليه الصلاة والسلام، أنه قال وأنصح لكم وحكى عن هود عليه الصلاة والسلام أنه قال‏:‏ وأنا لكم ناصح فالأول بصيغة الفعل والثاني بصيغة اسم الفاعل والفرق بينهما أن صيغة الفعل تدل على تجدد النصح ساعة بعد ساعة فكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله عنه بقوله قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل فقال‏:‏ وأنصح لكم وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلهذا قال‏:‏ وأنا لكم ناصح أمين والمدح للنفس بأعظم صفات المدح غير لائق بالعقلاء وإنما فعل هود ذلك وقال هذا القول لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك ومقصوده الرد عليهم في قولهم وأنا لنظنك من الكاذبين فوصف نفسه بالأمانة وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله ففيه تقرير للرسالة والنبوة وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها ‏{‏أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم‏}‏ يعني أعجبتم أن أنزل الله وحيه على رجل تعرفونه لينذركم بأس ربكم ويخوفكم عقابه ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء بعد قوم نوح‏}‏ يعني واذكروا نعمة الله عليكم إذا أهلك قوم نوح وجعلكم تخلفونهم في الأرض ‏{‏وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ يعني طولاً وقوة‏.‏ قال الكلبي والسدي‏:‏ كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعاً وقيل سبعين ذراعاً‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما ثمانين ذراعاً وقال مقاتل‏:‏ اثني عشر ذراعاً وقال وهب‏:‏ كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة ‏{‏فاذكروا آلاء الله‏}‏ يعني نِعَم الله وفيه إضمار تقديره فاذكروا نعمة الله عليكم واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ يعني لكي تفوزوا بالفلاح وهو البقاء في الآخر ‏{‏قالوا‏}‏ يعني قال قوم هود مجيبين له ‏{‏أجئتنا‏}‏ يا هود ‏{‏لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا‏}‏ يعني من الأصنام ‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ يعني من العذاب ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ يعني في قولك إنك رسول الله ‏{‏قال‏}‏ يعني قال هود مجيباً لهم ‏{‏قد وقع‏}‏ يعني نزل ووجب ‏{‏عليكم من ربكم رجس وغضب‏}‏ أي عذاب وسخط ‏{‏أتجادلونني‏}‏ يعني أتخاصمونني ‏{‏في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ يعني وضعتم لها أسماء من عند أنفسكم والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة وذلك معدوم فيها ‏{‏ما نزل الله بها من سلطان‏}‏ يعني من حجة وبرهان على هذه التسمية وإنما سميتموها أنتم من عند أنفسكم بغير دليل ‏{‏فانتظروا‏}‏ يعني العذاب ‏{‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ يعني نزول العذاب بكم ‏{‏فأنجيناه‏}‏ يعني فأنجينا هوداً عند نزول العذاب بقومه ‏{‏والذين معه برحمة منا‏}‏ يعني وأنجينا أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه لأنهم كانوا مستحقين للرحمة ‏{‏وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ يعني وأهلكنا الذين كذبوا هوداً من قومه وأراد بالآيات معجزات هود عليه الصلاة والسلام الدالة على صدقه وهذا هلاك استئصال فهلكوا جميعاً ولم يبق منهم واحد ‏{‏وما كانوا مؤمنين‏}‏ يعني لأنهم لم يكونوا مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏(‏ذكر قصة عاد على ما ذكره محمد بن إسحاق وأصحاب السير والأخبار‏)‏

قالوا جميعاً‏:‏ كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله تعالى فيهم هوداً عليه الصلاة والسلام الأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان وحضرموت من أرض اليمن وكانوا قد فسقوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي جعلها الله فيهم وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله عز وجل صنم يقال له صداء، وصنم يقال له صمود وصنم يقال له الهباء فبعث الله عز وجل فيهم هودا عليه الصلاة والسلام وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فيما ذكر فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس فأمنوا به وهم يسير يكتمون إيمانهم وكان ممن صدقه وآمن به رجل يقال له مرثد بن سعد بن عفير وكان يكتم إيمانه فلما عتوا على الله وكذَّبوا نبيهم وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية واتخذوا المصانع لعلهم يخلدون فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وجهد يطلبون الفرج من الله عز وجل وذلك عند بيته الحرام بمكة مؤمنهم ومشركهم وكان يجتمع بمكة ناس كثير مختلفة أديانهم وكل معظم مكة معترف بحرمتها ومكانها من الله عز وجل وكان البيت معروفاً مكانه من الحرم وكان سكان مكة يومئذ العماليق وإنما سموا العماليق لأن أباهم كان عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيد العماليق يومئذ رجلاً يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري وهو رجل من عاد وكانت عاد أخوال معاوية سيد العماليق فلما قحطت عاد وقلَّ عنهم المطر قالوا‏:‏ جهزوا منكم وفداً إلى مكة ليستسقوا لكم فإنكم هلكتم فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صنديد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلماً يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر سيد العماليق ولقمان بن عاد فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه جماعة من قومه فبلغ عدد وفد عاد سبعين رجلاً فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم عنده وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي نازلون عليّ والله ما أدري كيف أصنع فإني أستحي أن آمرهم بالخروج لما بعثوا إليه فيظنوا أنه ضيق مني بمكانهم عندي وقد هلك مَن وراءهم من قومهم جهداً وعطشا قال وشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك لأن يحركهم فقال معاوية‏.‏

ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عاداً *** قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس *** نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهمو بخير *** فقد أمست نساؤهم أيامى

وإن الوحش تأتيهم جهارا *** ولا تخشى لعادي سهاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم *** نهاركمو وليلكمو تماما

فقبح وفدكم من وفد قوم *** ولا لقوا التحية والسلاما

فلما قال معاوية هذا الشعر وغنتهم به الجرادتان وعرف القوم ما غنتا به قال بعضهم لبعض‏:‏ يا قوم إنما بعثكم قومك ليتغوثوا بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليه فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد بن عفير‏:‏ إنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه عند ذلك وقال في ذلك‏:‏

عصت عاد رسولهم فأمسوا *** عطاشاً ما تبلهم السماء

لهم صنم يقال له صمود *** يقابله صداء والهباء

فبصرنا الرسول سبيل رشد *** فأبصرنا الهدى وجلا العماء

وأن إله هود هو إلهي *** على الله التوكل والرجاء

زاد في الرواية‏:‏

لقد حكم الإله وليس جوراً *** وحكم الله إن غلب الهواء

على عاد وعاد شر قوم *** فقد هلكوا وليس لهم بقاء

وإني لن أفارق دين هود *** طول الدهر أو يأتي الفناء

فقال جلهمة بن الخيبري مجيباً لمرثد بن سعد حين فرغ من مقالته وعرف أنه اتبع دين هود وآمن به‏:‏

ألا يا سعد إنك من قبيل *** ذوي كرم وأمك من ثمود

فإنا لا نطيعك ما بقينا *** ولسنا فاعلين لما تريد

أتأمرنا لنترك دين وفد *** ورمل والصداء مع الصمود

ونترك دين آباء كرام *** ذوي رأي ونتبع دين هود

ثم قال جلهمة لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثداً فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بمكة قبل أن يدعو الله بشيء مما خرجوا إليه فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وبها وفد عاد يدعونه فقال مرثد‏:‏ اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني فيما يدعوك به وفد عاد، وقام قيل بن عنز رأس وفد عاد يدعو فقال‏:‏ اللهم أعط قيلاً ما سألك‏.‏ وقال الوفد معه‏:‏ واجعل سؤلنا مع سؤله‏.‏ وكان قد تخلف عن وفد عاد لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعواتهم قال لقمان فقال‏:‏ اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعا يا إلهنا إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لقومك ولنفسك من هذه السحاب فقال قيل‏:‏ قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثرب السحاب ماء فناداه مناد اخترت رماداً رمدداً لا يبقى من آل عاد أحداً وساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث لما رأوها استبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء‏}‏ أي كل شيء مرت به بأمر ربها وكان أول من أبصر ما فيه وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد فلما عرفت ما فيه من العذاب صاحت ثم صعقت لما أن أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قال رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فلم تدع من آل عاد أحداً إلا أهلكه واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس وإنها في وقتها لتمر بالظعن من عاد فتحملها بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل إليه رجل على ناقة في ليلة مقمرة وذلك مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر فقالوا له‏:‏ أين فارقت هوداً وأصحابه‏؟‏‏:‏ فقال‏:‏ فارقتهم بساحل البحر وكأنهم شكوا فيما حدثهم به فقالت هذيلة بنت بكر‏:‏ صدق رب الكعبة‏.‏

وقال السدي بعث الله عز وجل على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فلما رأوها تبادروا إلى البيوت فدخلوها وأغلقوا الأبواب، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت فلما أهلكتهم أرسل الله تعالى عليهم طيراً أسود فنقلهم إلى البحر فألقاهم فيه، وقيل‏:‏ إن الله تعالى أمر الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل ثم احتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها وفي الحديث «إنما خرجت على مثل خرق الخاتم» وقيل‏:‏ إن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل ابن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم أعطيتم مُناكم فاختاروا لأنفسكم غير أنه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مرثد‏:‏ اللهم أعطني براً وصدقاً فأعطي ذلك، وقال لقمان‏:‏ اللهم أعطني عمراً فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنر فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من البيضة وكان يأخذ الذكر لقوته فيربيه حتى يموت فإذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان السابع من النسور اسمه لبد فلما مات لبد مات لقمان معه‏.‏

وأما قيل فإنه اختار لنفسه ما يصيب قومه فقيل له إنه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعد قومي فأصابه الذي أصاب عاداً فهلك ومَن معه من الوفد الذين خرجوا يستسقون لعاد فأتت الريح لما خرجوا من الحرم فأهلكتهم جميعاً فلما أهلك الله عاداً ارتحل هود ومن معه من المؤمنين من أرضهم بعد هلاك قومه إلى موضع يقال له الشجر من أرض اليمن فنزل هناك ثم أدركه الموت فدفن بأرض حضرموت‏.‏ يروى عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أن قبر هود عليه الصلاة والسلام بحضرموت في كثيب أحمر وقال عبد الرحمن بن شبابة‏:‏ بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعين نبياً وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام في تلك البقعة ويروى أن كل نبي من الأنبياء كان إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله تعالى حتى يموتوا بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحاً‏}‏ يعني أرسلنا إلى ثمود وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عابر وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ومعنى الكلام وإلى بني ثمود أخاهم صالحاً لأن ثمود قبيلة‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ سميت ثمود لقلة مائها والثمد الماء القليل وقيل سموا ثمود باسم أبيهم الذي ينسبون إليه أخاهم صالحاً يعني في النسب لا في الدين وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ‏{‏قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏ يعني قال لهم صالح حين أرسله الله تعالى إليهم يا قوم وحدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئاً فما لكم من إله يستحق أن يُعبد سواه ‏{‏قد جاءتكم بينة من ربكم‏}‏ يعني جاءتكم حجة من ربكم وبرهان على صدق ما أقول وأدعو إليه من عبادة الله تعالى ولا تشركوا به شيئاً وعلى تصديق بأني رسول الله إليكم ثم فسر تلك البينة فقال ‏{‏هذه ناقة الله لكم آية‏}‏ يعني علامة على صدقي قال العلماء رحمهم الله تعالى‏:‏ ووجه كون هذه الناقة آية على صدق صالح ومعجزة له خارقة للعادة أنها خرجت من صخرة في الجبل وكونها لا من ذكر ولا من أنثى وكمال خلقها من غير حمل ولا تدريج لأنها خلقت في ساعة وخرجت من الصخرة وقيل لأنه كان لها شرب يوم ولجميع قبيلة ثمود شرب يوم وهذا من المعجزة أيضاً لأن ناقة تشرب ما تشربه قبيلة معجزة وكانوا يلحبونها في يوم شربها قدر ما يكفيهم جميعهم ويقوم لهم مقام الماء وهذا أيضاً معجزة وقيل إن سائر الوحوش والحيوانات كانت تمتنع من شرب الماء في يوم شرب الناقة وتشرب الحيوانات الماء في غير يوم الناقة وهذا أيضاً معجزة وإنما أضافها إلى الله تعالى في قوله هذه ناقة الله على سبيل التفضيل والتشريف كما يقال بيت الله وقيل لأن الله تعالى خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى وقل لأنه لم يملكها أحد إلا الله تعالى وقيل لأنها كانت حجة الله على قوم صالح ‏{‏فذروها تأكل في أرض الله‏}‏ يعني فذروا الناقة تأكل العشب من أرض الله فإن الأرض لله والناقة أيضاً لله وليس لكم في أرض الله شيء لأنه هو الذي أنبت العشب فيها ‏{‏ولا تمسوها بسوء‏}‏ يعني ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من أنواع الأذى ولا تعقروها ‏{‏فيأخذكم عذاب أليم‏}‏ يعني بسبب عقرها وأذاها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 77‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد‏}‏ يعني أن الله أهلك عاداً وجعلكم تخلفونهم في الأرض وتعمرونها ‏{‏وبوأكم‏}‏ يعني وأسكنكم وأنزلكم ‏{‏في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً‏}‏ يعني تبنون القصور من سهولة الأرض لأن القصود إنما تبنى من اللِّبن والآخر المتخذ من الطين السهل اللين ‏{‏وتنحتون الجبال بيوتاً‏}‏ يعني وتشقون بيوتاً من الجبال وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وهذا يدل على أنهم كانوا متمتعين مترهفين ‏{‏فاذكروا آلاء الله‏}‏ أي فاذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها ‏{‏ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ قال قتادة‏:‏ معناه ولا تسيروا في الأرض مفسدين فيها والعثو أشد الفساد وقيل أراد به عقر الناقة وقيل هو على ظاهره فيدخل فيه النهي عن جميع أنواع الفساد ‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه‏}‏ يعني قال الأشراف الذي تعظموا عن الإيمان بصالح ‏{‏للذين استضعفوا‏}‏ يعني الماسكين ‏{‏لمن آمن منهم‏}‏ يعني قال الأشراف المتعظمون في أنفسهم لأتباعهم الذين آمنوا بصالح وهم الضعفاء من قومه ‏{‏أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه‏}‏ يعني أن الله أرسله إلينا وإليكم ‏{‏قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون‏}‏ يعني قال الضعفاء إنا بما أرسل الله به صالحاً من الدين والهدى مصدقون ‏{‏قال الذين استكبروا‏}‏ يعني عن أمر الله والإيمان به وبرسوله صالح ‏{‏إنا بالذي آمنتم به كافرون‏}‏ أي جاحدون منكرون ‏{‏فعقروا الناقة‏}‏ يعني فعقرت ثمود الناقة والعقر قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره ‏{‏وعتوا عن أمر ربهم‏}‏ أي تكبروا عن أمر ربهم وعصوه والعتو والغلوّ في الباطل والتكبر عن الحق والمعنى أنهم عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم صالحاً عليه الصلاة والسلام ‏{‏وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا‏}‏ يعني من العذاب ‏{‏إن كنت من المرسلين‏}‏ يعني‏:‏ إن كنت كما تزعم أنك رسول الله فإن الله تعالى ينصر رسله على أعدائه وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين في كل ما أخبرهم به من العذاب فعجل الله لهم ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ قال الفراء والزجاج‏:‏ الرجفة الزلزلة الشديدة العظيمة، وقال مجاهد والسدي‏:‏ هي الصيحة فيحتمل أنهم أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم حتى هلكوا وهو قوله تعالى ‏{‏فأصبحوا في دارهم جاثمين‏}‏ يعني فأصبحوا في أرضهم وبلدهم جاثمين ولذلك وحد الدار كما يقال دار الحرب أي بلد الحرب ودار بني فلان بمعنى موضعهم ومجمعهم وجمع في آية أخرى، فقال في ديارهم لأنه أراد ما لكل واحد منهم من الديار والمساكن وقوله جاثمين يعني باركين على الركب والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير وجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال نومه وسكونه بالليل والمعنى أنهم أصبحوا جاثمين على وجوههم موتى لا يتحركون ‏{‏فتولى عنهم‏}‏ يعني فأعرض عنهم صالح وفي وقت هذا التولي قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدل عليه قوله ‏{‏فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم‏}‏ والفاء للتعقيب فدل على أنه جعل هذا التولي بعد جثومهم وهو موتهم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه تولى عنهم وهم أحياء قبل موتهم وهلاكهم ويدل عليه أنه خاطبهم ‏{‏وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين‏}‏ وهذا الخطاب لا يليق إلا بالأحياء فعلى هذا القول يحتمل أن يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره فتولى عنهم وقال‏:‏ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تبحون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا أنه خاطبهم بعد هلاكهم وموتهم توبيخاً وتقريعاً كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار في قتلى بدر حين ألقوا في القليب فجعل يناديهم بأسمائهم الحديث في الصحيح وفيه فقال عمر‏:‏ يا رسول الله كيف تكلم أقواماً قد جيفوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون‏.‏ وقيل إنما خاطبهم صالح بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجر عن مثل تلك الطريقة التي كانوا عليها‏.‏

‏(‏ذكر قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب بن منبه وغيرهما من أصحاب السير والأخبار‏)‏

قالوا جميعاً إن عاد لما هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا حتى إن أحدهم ليبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً وكانوا في سعة من العيش والرخاء فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله تعالى إليهم صالحاً نبياً وكانوا قوماً عرباً وكان صالح من أوسطهم نسباً وأفضلهم بيتاً وحسباً فبعثه الله تعالى إليهم وهو غلام فلم يزل يدعوهم إلى الله تعالى وإلى عبادته حتى شمط وكبر فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقاً على ما يقول فقال صالح أي آية تريدون‏؟‏ فقالوا‏:‏ تخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه أصنامهم، وذلك في يوم معلوم من السنة وقالوا تدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود‏:‏ يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء والمخترجة ما شاكلت بالبخت من الإبل فإن فعلت آمنا بك وصدقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا نعم قال فصلى صالح عليه الصلاة والسلام ركعتين ودعا ربه عز وجل فتمخضت الصخرة كما تمخص النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما سألوا ووصفوا غير أنه لا يعلم ما بين جنبها إلا الله عز وجل عظماً وهم ينظرون إليها ثم نتجت سقباً مثلها في العظم فأمن به جندع بن عمرو ورهط معه من قومه وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب وكانا صاحبا أوثانهم ورباب بن ضمير وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة من الصخرة قال لهم صالح‏:‏ هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غباً فإذا كان يوم ورودها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها فلا تدع قطرة ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا منها من لبن فيشربون ويدخرون حتى يملؤوا أوانيهم كلها ثم تصدر الناقة من غير الفج الذي ورجت منه ولا تقدر أن تصدر من حيث وردت حتى إذا كان من الغد كان يوم ثمود فيشربوا ما شاء الله من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة فيهم على ذلك في سعة ودعة وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم الإبل والبقر والغنم فتهبط إلى بطن الوادي فتكون في حره وجدبه وإذا كان الشتاء فتشتو الناقة في بطن الوادي فتهرب المواشي إلى ظهره فتكون في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله بهم والبلاء والاختبار، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لأحداهما عنيزة بنت غنم بن مخلد وتكنى بأم غنم وكانت عجوزاً مسنة وهي امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم‏.‏

والمرأة الأخرى يقال لها صدقة بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح عليه الصلاة والسلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرت بمواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدقة رجلاً من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال لها مصدع بن مهزج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكثرهم مالاً فأجابها إلى إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً ويزعمون أنه كان ابن زانية ولم يكن لسالف ولكنه ولد على فراشه فقالت عنيزة لقدار أي بناتي شئت أعطيتك على أن تعقر الناقة وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة» قوله انبعث أي قام بسرعة والعارم الخبيث الشرير والعرامة الشدة والقوة والشراسة والمنيع الممتنع ممن أراده‏.‏ قال أصحاب الأخبار‏:‏ فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهزج، فاستنفروا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم في عضلة ساقها فخرجت أم غنيم عنيزة وأمرت ابنتها فسفرت عن وجهها وكانت من أحسن الناس وجهاً ليراها قدار ثم حثته على عقرها وأغرته فشد قدار على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرجت ورغت رغاة واحدة فتحذر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلد فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هارباً حتى أتى جبلاً منيعاً يقال له صور وقيل قارة وأتى صالح عليه الصلاة والسلام فقيل له أدرك الناقة فقد عقرت فأقبل نحوها وخرج أهل البلد يتلقونه ويعتذرون إليه ويقولون يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوه على الجبل فذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى إلى الجبل أنْ تطاولْ فتطاول حتى ما تناله الطير وجاء صالح عليه السلام فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغا ثلاثاً ثم انفجرت الصخرة فدخلها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب وقال ابن إسحاق تبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهزج وأخوه ذؤاب فرماه مصدع بسهم فأصاب قلبه ثم جذبه فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح عليه السلام‏:‏ انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته قالوا وهم يهزؤون به‏:‏ ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك‏؟‏ وكانوا يسمون الأيام في ذلك الوقت الأحد أول والأثنين أهون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شبار وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح عليه الصلاة والسلام حين قالوا ذلك‏:‏ تصبحون غداً يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمّرة، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة‏:‏ هلموا فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلاً ليقتلوه أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح عليه الصلاة والسلام فوجدوهم وقد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه وقالوا لا تقتلوه أبداً فإنه قد وعدكم العذاب أنه نازل بكم بعد ثلاث فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم إلا غضباً عليكم وإن كان كاذباً فأنتم وراء ما تريدون فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فيما قال فطلبوه ليقتلوه فهرب منهم ولحق بحي من بطون ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فمنع صالحاً فلم يقدروا عليه وكانوا عمدوا إلى أصحاب صالح ليدلوهم عليه فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم‏:‏ يا نبي الله إنهم يعذبونا لندلهم عليك أفندلهم عليك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

فدلوهم عليه فأتوا أبو هدب فكلموه في أمر صالح فقال هو عندي وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم ما نزل بهم من العذاب فجعل بعضهم يخبر بعضاً بما يرون في وجوههم فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل فلما أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدم فصاحوا وضجوا وبكوا وأيقنوا أنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب فلما كانت ليلة الأحد خرج صالح عليه الصلاة والسلام ومن أسلم معه من أظهرهم إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبحوا في اليوم الرابع تكفنوا وتحنطوا وألقوا بأنفسهم إلى الأرض يقلِّبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة عظيمة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وهلكوا جميعاً إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه الصلاة والسلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد ما عاينت العذاب وما أصاب ثمود فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم بما عاينت من العذاب الذي بثمود ثم استقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت في الحال‏.‏

وذكر السدي في عقر الناقة فقال‏:‏ أوحى الله عز وجل إلى صالح عليه والسلام إن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك صالح فقالوا ما كنا لنفعل فقال صالح إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا في هذا الشهر ولد إلا قتلناه قال فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر أولاد فذبحوهم ثم ولد للعاشر ولد فأبى أن يذبحه لأنه كان لم يولد له قبل ذلك ولد وكان الولد الذي ولد له أحمر أزرق فنبت نباتاً سريعاً فكان إذا مر بالتسعة فرأوه، قالوا‏:‏ لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا الغلام فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله يعني فتحالفوا بالله لنبيتنه وأهله وقالوا نخرج فنرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم نرجع إلى الغار فنكون فيه حتى ننصرف إلى رحلنا فنقول ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا فيظنون أنا قد خرجنا إلى سفر وكان صالح لا ينام معهم في القرية بل كان يبيت في مسجد له خارج القرية فإذا أصبح أتاهم فيعظهم ويذكرهم فإذا أمسى خرج إلى مسجده فيتعبد فيه قال فانطلق التسعة إلى الغار فدخلوا فسقط عليهم فقتلوا فانلطق رجال ممن كان قد اطلع على أمرهم لينظروا ما فعل أولئك النفر فرأوهم وهم رضخ فرجعوا إلى القرية يصيحون ما رضي صالح بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كان التسعة قد تقاسموا على تبييت صالح بعد عقر الناقة، وقال السدي وغيره‏:‏ لما ولد للعاشر ولد سماه بقدار فكان يشب سريعاً فلما كبر جلس مع أناس يشربون الخمر فأرادوا ماء ليمزجوا به شرابهم وكان ذلك اليوم يوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نصنع نحن بلبن هذه الناقة ولو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه لأنعامنا وزروعنا كان خيراً لنا، وقال ابن العاشر‏:‏ هل لكم أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال‏:‏

«لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي» وفي رواية لمسلم‏:‏ «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين» ثم ذكر مثله ولهما عنه أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهرقوا ما استقوه ويعلفوا الإبل العجيبن وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة «وللبخاري» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارهم ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجيبن ويهريقوا ذلك الماء‏.‏ وفي بعض الأحاديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآيات فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب ماءهم يوم ورودها وأراهم مرتقى الفصيل من القارة فعتوا عن امر ربهم وعقروها فأهلك الله من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً واحداً يقال له أبو وغال وهو أبو ثقيف، كان في حرم الله فمنعه حرم الله تعالى من عذاب الله لما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب وأراهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أبي رغال فنزل القوم وابتدروه بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغضن» وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمي حضرموت ثم بنوا أربعة آلاف مدينة وسموها حضوراء وقال قوم من أهل العلم‏:‏ توفي صالح عيله الصلاة والسلام بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة‏.‏